top of page

الاستعمار بين الأمس واليوم: من الهند وأمريكا الجنوبية إلى سهل البقيعة

  • Writer: آدم محمد عكاوي
    آدم محمد عكاوي
  • Oct 12
  • 2 min read

ree

يبدو أن التاريخ لا يكرر نفسه فقط، بل يصر على البقاء معنا بثوب جديد في كل زمن. فمنذ بدايات العصور الحديثة، كان الاستعمار أحد أكثر الظواهر قسوةً وإرباكاً في تاريخ البشرية. لم يكن مجرد توسّع جغرافي، بل منظومة متكاملة من السيطرة الاقتصادية والثقافية والسياسية، بُنيت على نهب الموارد وسرقة الأراضي من الشعوب الأصلية. واليوم، ونحن نتابع أخبار مصادرة الأراضي في سهل البقيعة، يصعب تجاهل التشابه بين ما يجري الآن وما جرى قبل قرون في الهند وأمريكا الجنوبية.


في الهند، عندما دخل البريطانيون البلاد تحت ذريعة “التجارة”، لم يمضِ وقت طويل حتى تحولت شركة الهند الشرقية إلى قوة استعمارية تمارس السلطة باسم الربح والاستثمار. الأراضي الزراعية أُعيد توزيعها لصالح النخب المتحالفة مع الاستعمار، والفلاحون الذين عاشوا على تلك الأرض لأجيال وجدوا أنفسهم غرباء فيها. أما في أمريكا الجنوبية، فقد كانت القصة أكثر دموية؛ إذ حوّل الإسبان والبرتغاليون القارة إلى مساحة مفتوحة للنهب، صادروا أراضي السكان الأصليين، واستعبدوا الملايين في مناجم الفضة ومزارع قصب السكر. الاستعمار لم يكن فقط سرقةً للأرض، بل أيضاً إلغاءً للذاكرة وللحق في أن يكون الإنسان سيد مكانه.


وإذا كانت تلك الممارسات قد ارتُكبت في القرنين السادس عشر والتاسع عشر تحت شعارات "التقدم" و"الحضارة"، فإن ما يحدث اليوم في فلسطين يعيد صياغة تلك المفاهيم نفسها بلغة أكثر برودة: “الأمن” و“التنمية”. فالخبر الصادر عن جمعية إيخيليا الأغوار حول قيام المستعمرين بتسييج أكثر من ألف دونم من أراضي سهل البقيعة المملوكة لعائلات من بلدة طمون، يعيد إلى الأذهان صوراً مألوفة من التاريخ الاستعماري العالمي. الأراضي هنا ليست فقط موردًا اقتصادياً، بل امتدادٌ للهوية والذاكرة الجمعية، وما يجري هو عملية اقتلاع بطيئة، تشبه كثيراً ما فعله المستعمرون في الهند أو أمريكا اللاتينية عندما اعتبروا الأرض “خالية” لمجرد أن أصحابها لا يملكون سلطة السلاح أو النفوذ.


ree

ما يميز هذا النوع من الاستعمار الحديث هو محاولته الظهور بوجه قانوني، مستخدمًا أدوات الإدارة والتخطيط بدل المدافع والسفن. لكنه في جوهره لا يختلف عن الماضي: إنه استعمار استيطاني يسعى لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي، مستخدماً ما يسميه البعض "الاستثمار" غطاءً لعمليات المصادرة والسيطرة.


غير أن الوعي الشعبي، كما في حالة طمون، يمثل اليوم خط الدفاع الأول ضد هذا النمط من الاستعمار. فدعوة الجمعية لأصحاب الأراضي لاستكمال الإجراءات القانونية تعكس إدراكاً عميقاً بأن مقاومة النهب لا تكون فقط بالمواجهة الميدانية، بل أيضاً بالتمسك بالقانون والتاريخ والوثائق. إنها محاولة للحفاظ على حقٍّ تاريخي في وجه قوةٍ تحاول محوه ببطء.


في النهاية، أحداث سهل البقيعة تُظهر لنا أن الاستعمار لم يمت، بل غيّر أدواته. وما بين الهند بالأمس وطمون اليوم، يظل الصراع على الأرض هو الصراع على الوجود نفسه — بين من يرى الأرض إرثاً مقدساً، ومن يراها مجرد صفقة.

Comments


من 48 - عشان 48

  • X
  • Facebook
  • Instagram
bottom of page